عبدالنبي النديم يكتب: «الكولوسيوم».. وتاريخ أوروبا الدموي

عبد النبي النديم
عبد النبي النديم

هزة عنيفة أحدثتها الحرب الروسية على أوكرانيا، فى مختلف الأوساط السياسية والاقتصادية والإجتماعية على مستوى دول العالم، فلم تترك الحرب شيئا إلا وأثرت عليه، من ارتفاع حاد فى مختلف الأسعار، وإعادة لترتيب وتشكيل موازين القوى فى العصر الحديث.. وغيرها من الآثار السلبية التى وضعت كافة دول العالم فى مأزق كبير، فهذه الحرب الروسية أعادت للأذهان صور حروب العصور الوسطى فى القارة العجوز، وما تلاها من حروب حتى وصل المآل إلى الحرب العالمية الأولى والثانية، وما بعدها من حروب وإستعمار لدول العالم الثالث، فالحرب الروسية على أوكرانيا تعد إمتدادا لسلسلة تاريخية طويلة من الحروب الدموية، التى اشتهرت بها القارة العجوز - والتاريخ لا يكذب - فعلى مر العصور التى عاشتها القارة الأوربية، صدرت للعالم مشاهد دموية، ما زالت تعانى منها البشرية، نتيجة المجازر التى ارتكبتها قارة أوروبا ضد مختلف قارات العالم، والتى تسردها لنا كتب التاريخ، للدرجة التى أصبح معها مشهد الدم والقتل على سبيل التسلية والإثارة والمتعة فى الحضارات الأوربية القديمة الوسطى..

فالحضارة الأوروبية والتحضر الذى تصدره لنا، ما هو إلا ميراث شر لعصور من الدموية، والبلد المنشأ للفكر الإستعماري الذي راح ضحيته ملايين من البشر، فالقارة العجوز منبع السخرة والعنصرية، رضخت تحت نيرها أوروبا في عصور من الجهل والظلام، والذين يتشدقون الآن بالديمقراطية ما هى إلا وهم وخداع، ويتخذونها ستارا عصريا إمعانا في الفكر الدموي الموروث من أسلافهم عبر القرون الأولى، منها خرجت الحروب القديمة، وفيها استعبدوا الأفارقة، ومنها إنطلقوا للقضاء على سكان أمريكا اللاتينية القديمة بالحرب البيولوجية.. وغيرها الكثير من قصص الرعب المغلفة بالدماء والدمار والعبودية والسخرة وانتهاك حرمات البشرية..

فلنا أن نتخيل هذا التاريخ الدموي لأصغر قارات العالم العجوز، الذى كان فيه القتل أو الذبح مصدرا للتسلية والترفية، وكانت «الكولوسيوم».. «حلبة الموت الرومانية» فى ذلك العصر كانت كـ«دور السينما» اليوم، الأسر كانت تذهب إليها وتستمتع بمنظر الدم والقتل، وتم بناءها في وسط مدينة روما عاصمة الدولة الرومانية، التى كانت رمز الحضارة التى يقولون عنها اتسمت بالتطور، وبداية الحكم بالديمقراطية عن طريق انشاء مجالس نيابية، فقد كانت الكولوسيوم مصدر التسلية والترفيه لكل المجتمع فى روما.. رجالا ونساء وأطفالا، فالأسرة بكاملها كانت تحضر إليها لمشاهدة الأسود المفترسة التي يتم تجويعها، ثم يتم إطلاقها على الأسرى الذين يتم إدخالهم إلى الحلبة مع زوجاتهم وأطفالهم فتلتهمهم الأسود الجائعة، وتقطعهم إربا وسط ضحكات واستمتاع الحضور، كما كانوا يجبرون الأسرى القتال والمبارزة فيما بينهم فيجبروا الصديق على قتل صديقه، وكانت هذه المبارزة تنتهي بالموت ، ولك أن تتخيل أن هذه اللعبة كانت الأكثر شعبية لدى الجماهير الأوروبية الرومانية القديمة، لذلك كان يقتل الملايين فى هذه الحروب كأمرا متكرر الحدوث بينهم ومنظر عادى الرؤية تعليق الرؤوس على أبواب روما..

وقد زين التاريخ الأوروبي - «وفقا لدراسة ألمانية نشرت عام 2002» - رموزا من الجلادين الذين تفاخروا بتنفيذ الآلاف من عمليات الإعدام طيلة فترات حياتهم، ومن ضمنهم الجلاد الألماني يوهان ريكارت خلال فترة «الرايخ الثالث» والذي أعدم أكثر من 2000 شخص، وجلاد الثورة الفرنسية شارل هنري سانسون الذي أعدم لوحده أكثر من 3000 شخص عن طريق المقصلة، أمام كل هذه الأسماء، يبرز اسم اللواء السوفيتي فاسيلي بلوخين حيث شغل ما بين عامي 1926 و1952 منصب المسؤول عن قسم عمليات الإعدام لدى جهاز الشرطة السرية السوفيتية، الذي حقق رقما قياسيا دخل من خلاله التاريخ كأكثر جلاد دموي على مر التاريخ البشري، في تنفيذ عشرات الآلاف من عمليات الإعدام رمياً بالرصاص، فضلاً عن ذلك وبناءً على أوامر من ستالين، ومع بداية الحرب العالمية الثانية، وعلى إثر اقتسام أراضي بولندا بين كل من ألمانيا والاتحاد السوفيتي، تمكّن السوفيت من أسر عشرات الآلاف من الضباط البولنديين، وعقب اقتراح من المسؤول بوزارة الشؤون الداخلية لافرينتي بيريا وموافقة ستالين صدرت أوامر صارمة لجهاز الشرطة السرية السوفيتية بإعدام عدد هائل من الأسرى البولنديين ضمن ما عرف لاحقا بـ«مذبحة كاتين»، وخلالها لقي أكثر من 20 ألف ضابط بولندي مصرعهم، وكان فاسيلي بلوخين مسؤولا عن إعدام الآلاف منهم، حيث كان يقوم بإعدام 300 أسير بولندي يومياً، وعلى مدار 28 يوما أقدم فاسيلي بلوخين شخصياً على إعدام أكثر من 70000 أسير بولندي ليدخل عقب هذه المذبحة التاريخ كأكثر جلاد دموي عرفته البشرية. وعقب نهاية المذبحة، حصل بلوخين على وسام «الراية الحمراء» السوفيتي كتكريم له على شجاعته في تنفيذ الأوامر.

فما نشاهده من قصص الرعب المصورة فى السينما ما هى إلا نماذج فى الحياة الواقعية فى مختلف العصور، متمثلة فى القصص والأساطير المرتبطة بالقلاع الأوروبية، فالأوربيون ينقسمون إلى عدد كبير من «الشعوب» العرقية المختلفة، يبلغ مجموع هذه الشعوب نحو 87 شعب، منها عدد 33 شعب تشكل الغالبية في بلدانها وأهمها «الروس, الألمان, الفرنسيين, الإنجليز, الإيطاليين, الأوكرانيين, الأسبان والبرتغال»، ولهذه الشعوب صفة مميزة اتصفوا بها منذ قديم الزمان وتميزوا بها عن بقية شعوب العالم، وهي القسوة الشديدة لدرجة جعلت التعذيب والقتل عندهم نوعا من التسلية كما قلنا، عن حلبة الموت الرومانية «الكولسيوم» في وسط روما، كما كان هناك مسابقات المبارزة التي تنتهي بالموت هي اللعبة الأكثر شعبية لدى الجماهير الأوروبية الرومانية القديمة، لذا نجد أن الحروب التي يقتل فيها الملايين كانت أمرا متكرر الحدوث بينهم، ومثل تلك الحروب الأوربية «حرب الثلاثين عاما» التي قتل فيها ما يزيد عن 11 مليون شخص، ونقص فيها سكان ألمانيا من 20 مليونا إلى 13 مليون، ونتج عن ذلك نقص كبير في عدد الرجال فجعلوا تعدد الزوجات إجباريا، وفي حروب نابليون قتل أكثر من 6 ملايين إنسان، وفي حرب السنوات السبع بين بريطانيا وفرنسا قتل ما يزيد عن 14 مليون إنسان، وفي الحرب الأهلية الروسية قتل ما يزيد عن 9 ملايين، وفي حروب فرنسا الدينية قتل نحو 4 ملايين، وفي الحرب العالمية الأولى التي بدأت بين النمسا وصربيا قتل ما يزيد عن 20 مليون إنسان، وفي الحرب العالمية الثانية التي بدأت باجتياح ألمانيا لبولندا قتل نحو 85 مليون إنسان.

فالحروب والمجازر الأوربية أكبر من أن تحصى، مجازر دموية مروعة يتم القتل والتعذيب فيها بوسائل رهيبة لا تخطر على بال، مثل التمشيط بأمشاط الحديد، واستخدام النشر بالمنشار، وسحق العظام بآلات ضاغطة، واستخدام الأسياخ المحمية على النار، وتمزيق الأرجل، وفسخ الفك، كما استخدموا مقلاع الثدي لخلع أثداء النساء من جذورها، والتابوت الحديدي، وكرسي محاكم التفتيش الذي يحتوي على مسامير في كل نقطة منه، وعندما خرج الأوربيون بقسوتهم هذه إلى العالم أحدثوا دمارا وخرابا هائلا للبشرية..

وعندما غزو أمريكا مسحوا سكانها من على وجه الأرض مستخدمين أبشع الوسائل التي لا تخطر على عقل بشر، حيث قدموا مئات البطاطين الملوثة بجراثيم الجدري والسل والكوليرا كهدايا للسكان الأصليين لتحصدهم دون أدني جهد وقد قتلوا بذلك الملايين من السكان الأصليين خلال عقود قليلة، كما وضوعوا جوائز مالية لمن يأتي برأس أحد السكان الأصليين من الرجال أو النساء أو الأطفال مما جعل الصيادين ينتشرون في أرجاء القارة الأمريكية يجلبون الرؤوس بأعداد هائلة، ثم اقتصر الأمر على فروة الرأس ليسهل عليهم الحمل، وكان الصياديين يفتخرون بأن أحذيتهم مصنوعة من جلود البشر، وكانت النتيجة أبادة أكثر من 100 مليون من السكان الأصليين في أمريكا, والنتيجة تغيير كامل لسكان أمريكا ليحل محلهم الأوربيون، فكل دول أمريكا الشمالية والجنوبية اليوم يملكها الأوربيون بإثنياتهم المختلفة، فالبرازيليون هم برتغال وأسبان، والأرجنتينيون هم أسبان وإيطاليون، ونجد أن معظم سكان أمريكا الجنوبية هم أسبان إضافة للإثنيات الأوربية الأخرى خاصة في تشيلي, الأورغواي, كولومبيا, فنزويلا، وغيرها.

وعندما اتجه الأوربيون نحو أفريقيا حولوا «الرق» إلى تجارة مثل تجارة الماشية، فقد كانت الحكومات الأوروبية هي التي تحتكر تجارته، وتضع القواعد المنظمة لهذه التجارة، وكانت أسهم شركات تجارة العبيد هي الأعلى ربحا, وبعد تحرير تلك التجارة والسماح للشركات الخاصة بالعمل في هذا المجال أصبحت تلك الشركات تصدر كميات مهولة من الأفارقة إلى الدول الأوربية ومستعمراتها في كل أنحاء العالم، فالشركات الفرنسية لوحدها كانت ترسل ما لا يقل عن المئة ألف أفريقي سنويا إلى المناطق التابعة لفرنسا في أمريكا.

وفي آسيا فعل الأوربيين شيئا عجيبا ، فقد كانت الحكومات الأوربية تتاجر في المخدرات، فقد صدرت بريطانيا أول شحنة من المخدرات إلى الصين في العام 1781 وبعد أن بدأت مشاكل الإدمان تظهر على الشعب الصيني أصدر إمبراطور الصين أول مرسوم بتحريم استيراد المخدرات فأرسلت بريطانيا وفرنسا سفنهما وجنودهما إلى الصين لإجبارها على فتح أبوابها لتجارة المخدرات بالقوة, واستطاعوا أن يهزموا الصين ودخلوا بكين ومن ثم أجبروها على توقيع اتفاقية «تيان جين» في عام ‏1858‏ بين الصين والأوربيين ممثلين في كل من بريطانيا وفرنسا‏ والولايات المتحدة وروسيا، وفي هذه الاتفاقية تم تحديد الأفيون بصفة خاصة من بين البضائع المسموح باستيرادها, كما تم إلزامها في هذه الاتفاقية بالسماح بنشر المسيحية في الصين, وكان من ثمار هذه الاتفاقية أن ارتفع عدد المدمنين في الصين من مليونا عام 1850م ليصل إلى مليونين سنة 1878م, واستمر العمل بهذه الاتفاقية حتى العام 1911. 

ولم يخلوا العصر الحديث أيضا من المجازر والحروب الأوربية ، وكانت مجازر البوسنة التي قتل فيها نحو 300 ألف مسلم واغتصبت فيها نحو 60 ألف امرأة وطفلة مسلمة، وهجّر نحو مليون ونصف مسلم, شاهده على ميراث الشر الأوروبي الذى ورثوه من أسلافهم،ولعل أبشع ما حدث كان هو مجزرة «سربرنتيشا» الشهيرة التي حاصرها الصرب لمدة سنتين ولما لم يستطيعوا أن يدخلوها بالرغم من تجويعها طلبوا من أهلها تسليم أسلحتهم مقابل الأمان، وبعد أن سلموا أسلحتهم انقضوا عليهم وعزلوا الذكور عن الإناث، وجمعوا 12,000 من الذكور صبياناً ورجالاً فذبحوهم جميعاً طعنا بالسكاكين، ومثلوا بهم أبشع تمثيل، وذلك في مرأى من القوات الهولندية المسؤولة من حماية المدينة.

وتتواصل الشهوة الدموية للأروبيون في حرب العراق بأشد أنواع التعذيب وما قامت به القوات الأمريكية التى تمتد جذروهم إلى أوروبا، بالفضيحة الشهيرة عام 2004 عندما  قاموا بعمليات قتل واغتصاب وانتهاكات رهيبة في سجن أبوغريب، حيث تمت عمليات اغتصاب منظمة للنساء، وهتك لأعراض الرجال، إضافة إلى استخدام الكهرباء والكلاب وكافة وسائل التعذيب، فقد مارس الجنود الأميركيون 13 طريقة في تعذيب السجناء العراقيين تبدأ من الصفع على الوجه والضرب، وتنتهي بالاعتداء الجنسي، واللواط، وترك السجناء والسجينات عرايا لعدة أيام، وإجبار المعتقلين العرايا الرجال على ارتداء ملابس داخلية نسائية، والضغط على السجناء لإجبارهم على ممارسة أفعال جنسية شاذة وتصويرها بالفيديو، كما كانوا يجبرون السجناء العرايا على التكدس فوق بعضهم البعض.. 

كل هذه المجازر نهاية بالحرب الروسية على أوكرانيا وما سبقها من حروب تغذى شراراتها العنصرية الأوربية، بالسلاح، وتحصد من خلفها المليارات ولا مكان لأرواح الضحايا الذين تسفك دماءهم علنا دون رحمة، يؤكد لنا بما لا يدع مجالا للشك أن  حلبة الموت الرومانية «الكولوسيوم» ما زالت منصوبة فى البلاد الأوروبية، فآلة الحرب تحصد الأرواح وأوروبا وأمريكا بحلفها الناتو، ما زالوا فى مقاعد المتفرجين بـ«الكولوسيوم» يتمتعون بمنظر الدماء فى الحرب الروسية على الأوكران، يراهنون على الأقوى، الذى ينتصر وفي النهاية يقتل أيضا.

إنها أوروبا الدموية ستظل شهوة منظر الدماء لديهم تتحكم في أهوائهم، لا يحرك منظر التعذيب والقتل ساكنا لديهم، تحجرت قلوبهم، ولم يعد للرحمة مكان بها، يتشدقون بالديمقراطية والحرية، وهى ستار لشهوتهم المجنونة للقتل والدم، يغذون الأوكران بالسلاح ويمدونهم بالعتاد، ويعنلون شجبهم للعدوان الروسي، وهم يستمتعون بآلة حصد الأرواح التى تدور رحاها بالكولوسيوم الذى نصبت حلبته على الأراضى الأوكرانية.

صفحات التاريح لا تكذب، وما أرًخته فى سطورها لا يختلف عليه إثنان، ولكن يجب أن نتخذ من هذه السطور العظة، ونزيد من حرصنا على أن تكون هناك حالة من الفهم الكامل للأمور التى تدور رحاها فى مختلف دول العالم، من حروب اقتصادية وسياسية قبل الحروب العسكرية، وينضم لها فى العصر الحديث حروب الجيل الرابع والخامس وهى الحرب بالوكالة، حتى يكون لنا مكان فى هذا العالم المليء بالقلاقل، الذى لا يعرف إلا معنى واحد للوجود .. وهو القوة.